الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
والسبب في ذلك أن هذه الأقطار كانت للبربر منذ آلاف من السنين قبل الإسلام وكان عمرانها كله بدوياً ولم تستمر فيهم الحضارة حتى تستكمل أحولها. والدول التي ملكتهم من الإفرنجة والعرب لم يطل أمد ملكهم فيهم حتى ترسخ الحضارة منها فلب تزل عوائد البداوة وشؤونها فكانوا إليها أقرب فلم تكثر مبانيهم. وأيضاً فالصنائع بعيدة عن البربر لأنهم أعرق في البدو. والصنائع من توابع الحضارة وإنما تتم المباني بها فلا بد من الحذق في تعلمها. فلما لم يكن للبربرانتحال لها لم يكن لهم تشوف إلى المباني فضلاً عن المدن. وأيضاً فهم أهل عصبيات وأنساب لا يخلو عن ذلك جمع منهم. والأنساب والعصبية أجنح إلى البدو. وإنما يدعو إلى المدن الدعة والسكون ويصير ساكنها عيالاً على حاميتها فتجد أهل البدو لذلك يستنكفون عن سكنى المدينة أو الإقامة بها. ولا يدعوهم إلي ذلك إلا الترف والغنى وقليل ما هو في الناس. فلذلك كان عمران إفريقية والمغرب كله اوأكثره بدوياً أهل خيام وظواعن وقياطن وكنن في الجبال. وكان عمران بلاد العجم كله أو أكثره قرى وأمصاراً ورساتيق من بلاد الأندلس والشام ومصر وعراق العجم وأمثالها لأن العجم في الغالب ليسوا بأهل أنساب يحافظون عليها ويتناغون في صراحتها والتحامها إلا في الأقل. وأكثر ما يكون سكنى البدو لأهل الأنساب لأن لحمة النسب أقرب وأشد. فتكون عصبيته كذلك وتنزع بصاحبها إلى سكنى البدو والتجافي عن المصر الذي يذهب بالبسالة ويصيره عيالاً على غيره فافهمه وقس عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
والسبب في ذلك. ما ذكرنا مثله في البربر بعينه إذ العرب أيضاً أعرق في البدو وأبعد عن الصنائع. وأيضاً فكانوا أجانب من الممالك التي استولوا عليها قبل الإسلام. ولما تملكوها لم ينفسح الأمد حتى تستوفي رسوم الحضارة مع أنهم استغنوا بما وجدوا من مباني غيرهم. وأيضاً فكان الدين أول الأمر مانعاً من المغالاة في البنيان والإسراف فيه في غير القصد كما عهد لهم عمر حين استأذنوه في بناء الكوفة بالحجارة وقد وقع الحريق في القصب الذي كانوا بنوا به من قبل فقال: افعلوا ولا يزيدن أحد على ثلاثة أبيات. ولا تطاولوا في البنيان والزموا السنة تلزمكم الدولة. وعهد إلى الوفد وتقدم إلى الناس أن لا يرفعوا بنياناً فوق القدر. قالوا: وما القدر قال: ما لا يقربكم من السرف ولا يخرجكم عن القصد. فلما بعد العهد بالدين والتحرج في أمثال هذه المقاصد وغلبت طبيعة الملك والترف واستخدم العرب أمة الفرس وأخذوا عنهم الصنائع والمباني ودعتهم إليها أحوال الدعة والترف فحينئذ شيدوا المباني والمصانع وكان عهد ذلك قريباً بانقراض الدولة ولم ينفسح الأمد لكثرة البناء واختطاط المدن والأمصار إلا قليلاً وليس كذلك غيرهم من الأمم. فالفرس طالت مدتهم آلافاً من السنين وكذلك القبط والنبط والروم وكذلك العرب الأولى من عاد وثمود والعمالقة والتبابعة طالت آمادهم ورسخت الصنائع فيهم فكانت مبانيهم وهياكلهم أكثر عدداً وأبقى على الأيام أثراً. واستبصر في هذا تجده كما قلت لك. والله وارث الأرض ومن عليها. والسبب في ذلك شأن البداوة والبعد عن الصنائع كما قدمناه فلا تكون المباني وثيقة في تشييدها. وله والله أعلم وجه آخر وهو أمس به وذلك قلة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن كما قلناه: من المكان وطيب الهواء والمياه والمزارع والمراعي فإنه بالتفاوت في هذه تتفاوت جودة المصر ورداءته من حيث العمران الطبيعي. والعرب بمعزل عن هذا وإنما يراعون مراعي إبلهم خاصة لا يبالون با لماء طاب أو خبث ولا قل أو كثر ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية لانتقالهم في الأرض ونقلهم الحبوب من البلد البعيد. وأما الرياح فالقفر مختلف للمهاب كلها. والظعن كفيل لهم بطيبها لأن الرياح إنما تخبث مع القرار والسكنى وكثرة الفضلات. وانظر لما اختطوا الكوفة والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلى مراعي إبلهم. وما يقرب من القفر ومسالك الظعن فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن ولم تكن لها مادة تمد عمرانها من بعدهم كما قدمنا بأنه يحتاج إليه في حفظ العمران. فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس. فلأول وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيتهم التي كانت سياجاً لها أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن. "
اعلم أن الأمصار إذا اختطت أولاً تكون قليلة المساكن وقليلة آلات البناء من الحجر والجير وغيرهما مما يعالى على الحيطان عند التأنق: كالزلج والرخام والربج والزجاج والفسيفساء والصدف فيكون بناؤها يومئذ بدوياً وآلاتها فاسدة. فإذا عظم عمران المدينة وكثر ساكنها كثر الآلات بكثرة الأعمال حينئذ وكثر الصناع إلى أن تبلغ غايتها من ذلك كما سبق بشأنها. فإذا تراجع عمرانها وخف ساكنها قلت الصنائع لأجل ذلك ففقدت الأجادة في البناء والإحكام والمعالاة عليه بالتنميق. ثم تقل الأعمال لعدم الساكن فيقل جلب الآلات من الحجر والرخام وغيرهما فتفقد ويصير بناؤهم وتشييدهم من الآلات التي في مبانيهم فينقلونها من مصنع إلى مصنع لأجل خلاء أكثر المصانع والقصور والمنازل لقلة العمران وقصوره عما كان أولاً. ثم لا تزال تنقل من قصر إلى قصر ومن دار إلى دار إلى أن يفقد الكثير منها جملة فيعودون إلى البداوة فى البناء واتخاذ الطوب عوضاً عن الحجارة والقصور عن التنميق بالكلية. فيعود بناء المدينة مثل بناء القرى والمدر. ويظهر عليها سيما البداوة. ثم تمر في التناقص إلى غايتها من الخراب إن قدر لها به. سنه الله في خلقه.
والمدن في كثرة الرفه لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة والسبب في ذلك أنه قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشه: وأنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم على ذلك. والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تسد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافاً. فالقوت من الحنطة مثلاً لا يستقل الواحد بتحصيل حصته منه. وإذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد ونجار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات. فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم. وأهل مدينة أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفي فيها بالأقل من تلك الأعمال وبقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات فتصرف في حالات الترف وعوائده. وما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمه فيكون لهم بذلك حظ من الغنى. وقد تبين لك في
أن المكاسب إنما هي قيم الأعمال. فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة. ودعتهم أحوال الرفه والغنى إلى الترف وحاجاته من التأنق في المساكن والملابس واستجادة الأنية والماعون واتخاذ الخدم والمراكب. وهذه كلها أعمال تستدعى بقيمها ويختار المهرة في صناعتها والقيام عليها فتنفق أسواق الأعمال والصنائع ويكثر دخل المصر وخرجه ويحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم. ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية. ثم زاد الترف تابعاً للكسب وزادت عوائده وحاجاتة. واستنبطت الصنائع لتحصيلها فزادت قيمها وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول. وكذا في الزيادة الثانية والثالثة. لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بالترف والغنى بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش. فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب ورفه وبعوائد من الترف لا توجد في الآخر. فما كان عمرانه من الأمصار أكثر وأوفر كان حال أهله في الترف أبلغ من حال المصر الذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف: القاضي مع القاضي والتاجر مع التاجر والصانع مع الصانع والسوقي مع السوقي والأمير مع الأمير والشرطي مع الشرطي. واعتبر ذلك في المغرب مثلاً بحال فاس مع غيرها من أمصاره الآخرى مثل بجاية وتلمسان وسبتة تجد بينهما بوناً كثيراً على الجملة. ثم على الخصوصيات فحال القاضي بفاس أوسع من حال القاضي بتلمسان وكذا كل صنف مع أهل صنفه. وكذا أيضاً حال تلمسان مع وهران والجزائر وحال وهران والجزائر مع ما دونهما إلى أن تنتهي إلى المدر الذين اعتمالهم في ضروريات معاشهم فقط أو يقصرون عنها. وما ذاك إلا لتفاوت الأعمال فيها فكأنها كلها أسواق للأعمال. والخرج في كل سوق على نسبته فالقاضي بفاس دخله كفاء خرجه وكذا القاضي بتلمسان. وحيث الدخل والخرج أكثر تكون الأحوال أعظم. وما بفاس أكثر لنفاق سوق الأعمال بما يدعو إليه الترف فالأحوال أضخم. ثم هكذا حال وهران وقسنطينة والجزائر وبسكرة حتى تنتهي كما قلناه إلى الأمصار التي لا توفي أعمالها بضروراتها ولا تعد في الأمصار إذ هي من قبيل القرى والمدر. فلذلك تجد أهل هذه الأمصار الصغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر والخصاصة لما أن أعمالهم لا تفي بضروراتهم. ولا يفضل ما يتأثلونه كسباً فلا تنمو مكاسبهم. وهم لذلك مساكين محاويح إلا في الأقل النادر. واعتبر ذلك حتى في أحوال الفقراء والسؤال. فإن السائل بفاس أحسن حالاً من السائل بتلمسان أو وهران. ولقد شاهدت بفاس السؤال يسألون أيام الأضاحي أثمان ضحاياهم ورأيتهم يسألون كثيراً من أحوال الترف واقتراح المآكل مثل سؤال اللحم والسمن وعلاج الطبخ والملابس والماعون كالغربال والآنية. ولو سأل السائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكر وعنف وزجر. ويبلغنا لهذا العهد عن أصوال أهل القاهرة ومصر من الترف والغنى في عوائدهم ما نقضي منه العجب. حتى إن كثيراً من الفقراء بالمغرب ينزعون إلى النقلة إلى مصر لذلك ولما يبلغهم من أن شأن الرفه بمصر أعظم من غيرها. وتعتقد العامة من الناس أن ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاق على غيرهم أو أموال مختزنة لديهم. وأنهم أكثر صدقة وإيثاراً من جميع أهل الأمصار وليس كذلك. وإنما هو لما تعرفه من أن عمران مصر والقاهره أكثر من عمران هذه الأمصار التي لديك فعظمت لذلك أحوالهم. وأما حال الدخل والخرج فمتكافىء في جميع الأمصار. ومتى عظم الدخل عظم الخرج وكل شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره واعتبره بكثرة العمران وما يكون عنه من كثرة المكاسب التي يسهل بسببها البذل والإيثار على مبتغيه. ومثله بشأن الحيوانات العجم مع بيوت المدينة الواحدة وكيف تختلف أحوالها في هجرانها أو غشيانها. فإن بيوت أهل النعم والثروة والموائد الخصبة منها تكثر بساحتها وأفنييها نثير الحبوب وسواقط الفتات فيزدحم عليها غواشي النمل والخشاش. ويكثر في سربها الجرذان وتأؤي إليه السنانير وتحلق فوقها عصائب الطيور حتى تروح بطاناً وتمتلىء شبعاً ورياً. وبيوت أهل الخصاصة والفقر الكاسدة أرزاقهم لا يسري بساحتها دبيب ولا يحلق بجوها طائر ولا تأوي إلى زوايا بيوتهم فأرة ولا هرة كما قال الشاعر: يسقط الطير حيث ينتثر الحب وتغشى منازل الكرماء فتأمل سر الله تعالى في ذلك واعتبر غاشية الأناسي بغاشية العجم من الحيوانات وفتات الموائد بفضلات الرزق والترف وسهولتها على من يبذلها لاستغنائهم عنها في الأكثر بوجود أمثالها لديهم. واعلم أن اتساع الأحوال وكثرة النعم في العمران تابع لكثرته. والله سبحانه وتعالى أعلم وهو غني عن العالمين. في أسعار المدن اعلم أن الأسواق كلها تشتمل على حاجات الناس: فمنها الضروري وهي الأقوات من الحنطة والشعير وما في معناهما كالباقلا والحمص والجلبان وسائر حبوب الأقوات ومصلحاتها كالبصل والثوم وأشباهه ومنها الحاجي والكمالي مثل الأدم والفواكه والملابس والماعون والمراكب وسائر المصانع والمباني. فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضروري من القوت وما في معناه وغلت أسعار الكمالي من الأدم والفواكه وما يتبعها وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس من ذلك. والسبب في ذلك أن الحبوب من ضرورات القوت فتتوفر الدواعي على اتخاذها إذ كل واحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله لشهره أو سنته فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه لا بد من ذلك. وكل متخذ لقوته تفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كثيرة تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل الأقوات عن أهل المصر من غير شك فترخص أسعارها في الغالب إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية. ولولا احتكار الناس لها لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن ولا عوض لكثرتها بكثرة العمران. وأما سائر المرافق من الأدم والفواكه وما إليها فإنها لا تعم فيها البلوى ولا يستغرق اتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين ولا الكثير منهم. ثم إن المصر إذا كان مستبحراً موفور العمران كثير حاجات الترف توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كل بحسب حاله فيقصر الموجود منها عن الحاجات قصوراً بالغاً. ويكثر المستامون لها وهي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض ويبذل أهك الرفه والترف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه. وأما الصنائع والأعمال أيضاً في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيه أمور ثلاثة: الأول كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه والثاني اعتزاز أهل الأعمال بخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها والثالث كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم وإلى استعمال الصناع في مهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها فيعتز العمال والصناع وأهل الحرف وتغلو أعمالهم وتكثر نفقات أهل المصر في ذلك. وأما الأمصار الصغيرة القليلة الساكن فأقواتهم قليلة لقلة العمل فيها وما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه فيعز وجودة لديهم ويغلو ثمنه على مستامه. وأما مرافقهم فلا تدعو إليها أيضاً حاجة لقلة الساكن وضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختص بالرخص في سعره. وقد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة ما يفرض عليها من المكوس والمغارم للسلطان في الأسواق وأبواب المصر وللجباة في منافع يفرضونها على البياعات لأنفسهم. وبذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية إذ المكوس والمغارم والفرائض قليلة لديهم أو معدومة. وبالعكس كثيرة في الأمصار لا سيما في آخر الدولة. وقد تدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح ويحافظ على ذلك في أسعارها كما وقع بالأندلس لهذا العهد. وذلك أنهم لما ألجأهم النصارى إلى سيف البحر وبلاده المتوعره الخبيثة الزراعة النكدة النبات وملكوا عليهم الأرض الزاكية والبلد الطيب فاحتاجوا إلى علاج المزارع والفدن لإصلاح نباتها وفلحها وكان ذلك العلاج بأعمال ذات قيم ومواد من الزبل وغيره لها مؤونة وصارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروها في سعرهم. واختص قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرهم النصارى إلى هذا المعمور بالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك. ويحسب الناس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم أنها لقلة الأقوات والحبوب في أرضهم وليس كذلك فهم أكثر أهل المعمور فلحاً فيما علمناه وأقومهم عليه وقل أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدان أو مزرعة أو فلح إلا قليلاً من أهل الصناعات والمهن أو الطراء على الوطن من الغزاة المجاهدين. ولهذا يختصهم السلطان في عطائهم بالعولة وهي أقواتهم وعلوفاتهم من الزرع. وإنما السبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه. ولما كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم وطيب أرضهم ارتفعت عنهم المؤن جملة في الفلح مع كثرته وعمومه فصار ذلك سبباً لرخص الأقوات ببلدهم. والله مقدر الليل والنهار وهو الواحد القفار لا رب سواه.
والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران يكثر ترفة كما قدمناه وتكثر حاجات ساكنه من أجل الترف وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات وتصير الأعمال فيه كلها مع ذلك عزيزة والمرافق غالية بازدحام الأغراض عليها من أي الترف وبالمغارم السلطانية التي توضع على الأسواق والبياعات وتعتبر في قيم المبيعات ويعظم فيها الغلاء في المرافق والأقوات والأعمال فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه. ويعظم خرجه فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشهم وسائر مؤنهم. والبدوي لم يكن دخله كثيراً إذ كان ساكناً بمكان كاسد الأسواق في الأعمال التي هي سبب الكسب فلم يتأثل كسباً ولا مالاً فيتعذرعليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير لغلاء مرافقه وعزة حاجاته. وهو في بدوه يسد خلته بأقل الأعمال لأنه قليل عوائد الترف في معاشه وسائر مؤنه فلا يضطر إلى المال. وكل من يتشوف إلى المصر وسكناه من أهل البادية فسريعاً ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه إلا من تقدم منهم تأثل المال ويحصل له منه فوق الحاجة ويجري إلى الغاية الطبيعية لأهل العمران من الدعة والترف. فحينئذ ينتقل إلى المصر وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم. وهكذا شأن بداية عمران الأمصار. والله بكل شيء محيط.
بالرفه والفقر مثل الأمصار اعلم أن ما توفر عمرانه من الأقطار وتعددت الأمم في جهاته وكثر ساكنه اتسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم وممالكهم. والسبب في ذلك كله ما ذكرناه من كثرة الأعمال وما يأتي ذكره من أنها سبب للثروة بما يفضل عنها بعد الوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته فيعود على الناس كسباً يتأثلونه حسبما نذكر ذلك في فصل المعاش وبيان الرزق والكسب. فيزيذ الرفه لذلك وتتسع الأحوال ويجيء الترف والغنى وتكثر الجباية للدولة بنفاق الأسواق فيكثر مالها ويشمخ سلطانها ويتفنن في اتخاذ المعاقل والحصون واختطاط المدن وتشييد الأمصار. واعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر والشام وعراق العجم والهند والصين وناحية الشمال كلها وأقطارها وراء البحر الرومي لما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم وعظمت دولهم وتعددت مدنهم وحواضرهم وعظمت متاجرهم وأحوالهم. فالذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجار الأمم النصرانية الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم واتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف. وكذا تجار أهل المشرق وما يبلغنا عن أحوالهم وأبلغ منها أحوال أهل المشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصين فإنه يبلغنا عنهم في باب الغنى والرفه غرائب تسير الركبان حديثها وربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر. ويحسب من يسمعها في العامة أن ذلك زياده في أموالهم أو لأن المعادن الذهبية والفضية أكثر بأرضهم أو لأن ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم وليس كذلك. فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الأقطار إنما هو ببلاد السودان وهي إلى المغرب أقرب. وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة. فلو كان المال عتيداً موفوراً لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأمواك ولاستغنوا عن أموال الناس بالجملة. ولقد ذهب المنجمون لما رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال واتساعها ووفورأموالها فقالوا بأن عطايا الكواكب والسهام في مواليد أهل المشرق أكثر منها حصصاً في مواليد أهل المغرب. وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النجومية والأحوال الأرضية كما قلناه. وهم إنما أعطوا في ذلك السبب النجومي وبقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره. وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الأعمال التي هي سببه فلذلك اختص المشرق بالرفه من بين الآفاق لا أن ذلك لمجرد الأثر النجومي. فقد فهمت مما أشرنا لك أولاً أنه لا يستقل بذلك فإن المطابقة بين حكمه وعمران الأرض وطبيعتها أمرلا بد منه. واعتبر حال هذا الرفه من العمران في قطر إفريقية وبرقة لما خف ساكنها وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة. وضعفت جباياتها فقلت أموال دولها بعد أن كانت دول الشيعة وصنهاجة بها على ما بلغك من الرفه وكثرة الجبايات واتساع الأحوال في نفقاتهم وأعطياتهم. حتى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته ومهماته في غالب الأوقات. وكانت أموال الدولة بحيث حمل جوهر الكاتب في سفره إلى فتح مصر ألف حمل من المال يستعدها لأرزاق الجنود وأعطياتهم ونفقات الغزاة. وقطر المغرب وإن كان في القديم دون إفريقية فلم يكن بالقليل في ذلك. وكانت أحواله في دول الموحدين متسعة وجباياته موفورة. وهو لهذا العهد قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه وتناقصه فقد ذهب من عمران البربر فيه أكثره ونقص عن معهوده نقصاً ظاهراً محسوساً وكاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوال إفريقية بعد أن كان عمرانه متصلاً من البحر الرومي إلى بلاد السودان في طول ما بين السوس الأقصى وبرقة. وهي اليوم كلها أو أكثرها قفار وخلاء وصحارى إلا ما هو منها بسيف البحر أو ما يقاربه من التلول. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
اعلم أن تأثل العقار والضياع الكثيرة لأهل الأمصار والمدن لا يكون دفعة واحدة ولا في عصر واحد إذ ليس يكون لأحد منهم من الثروة ما يملك به الأملاك التي تخرج قيمها عن الحد ولو بلغت أحوالهم في الرفه ما عسى أن تبلغ. وإنما يكون ملكهم وتأثلهم لها تدريجاً إما بالوراثة من آبائه وذوي رحمه حتى تتأذى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد وأكثر كذلك أو أن يكون بحوالة الأسواق. فإن العقار في أواخر الدولة وأول الأخرى عند فناء الحامية وخرق السياج وتداعي المصر إلى الخراب تقل الغبطة به لقلة المنفعة فيها بتلاشي الأحوال فترخص قيمها وتتملك بالأثمان اليسيرة وتتخطى بالميراث إلى ملك الآخر وقد استجد المصر شبابه باستفحال الدولة الثانية وانتظمت له أحوال رائقة حسنة تحصل معها الغبطة في العقار والضياع لكثر الغبطة في العقار والضياع لكثرة منافعها حينئذ فتعظم قيمها ويكون لها خطر لم يكن في الأول. وهذا معنى الحوالة فيها. ويصبح مالكها من أغنى أهل المصر وليس ذلك بسعيه واكتسابه إذ قدرته تعجز عن مثل ذلك. وأما فوائد العقار والضياع فهي غير كافية لمالكها في حاجات معاشه إذ هي لا تفي بعوائد الترف وأسبابه وإنما هي في الغالب لسد الخلة وضرورة المعاش. والذي سمعناه من مشيخة البلدان أن القصد باقتناء الملك من العقار والضياع إنما هو الخشية من يترك خلفه من الذرية الضعفاء ليكون مرباهم به ورزقهم فيه ونشؤهم بفائدته ماداموا عاجزين عن الاكتساب. فإذا اقتدروا على تحصيل المكاسب سعوا فيها بأنفسهم. وربما يكون من الولد من يعجز عن التكسب لضعف في بدنه أو آفة في عقله المعاشي فيكون ذلك العقار قواماً لحاله. هذا قصد المترفين في اقتنائه. وأما التمول وإجراء أحوال المترفين فلا. وقد يحصل ذلك منه للقليل أو النادر بحوالة الأسواق حصول الكثرة البالغة منه والعالي في جنسه وقيمته في المصر. إلا أن ذلك إذا حصل فربما امتدت إليه أعين الأمراء والولاة واغتصبوه في الغالب أو أرادوه على بيعه منهم ونالت أصحابه منه مضار ومعاطب. والله غالب على أمره وهو رب العرش العظيم.
وذلك أن الحضري إذا عظم تموله وكثر للعقار والضياع تأثله وأصبح أغنى أهل المصر ورمقته العيون بذلك وانفسحت أحواله في الترف والعوائد زاحم عليها الأمراء والملوك وغصوا به. ولما في طباع البشر من العدوان تمتد أعينهم إلى تملك ما بيده وينافسونه فيه ويتحيلون على ذلك بكل ممكن حتى يحصلونه في ربقة حكم سلطاني وسبب من المؤاخذة ظاهر ينتزع به ماله وأكثر الأحكام السلطانية جائرة في الغالب إذ العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية وهي قليلة اللبث. قال صلى الله عليه وسلم: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تعود ملكاً عضوضاً ". فلا بد حينئذ لصاحب المال والثروة الشهيرة في العمران من حامية تذود عنه وجاه ينسحب عليه من ذي قرابة للملك أو خالصة له أو عصبية يتحاماها السلطان فيستظل هو بظلها ويرتع فى أمنها من طوارق التعدي. وإن لم يكن له ذلك أصبح نهباً بوجوه التحيلات وأسباب الحكام. والله يحكم لامعقب لحكمه.
وإنما ترسخ باتصال الدولة ورسوخها والسبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتاً غير منحصر. ويقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها فتكون بمنزلة الصنائع ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه المهرة فيه. وبقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيد أهل صناعتها ويتلون ذلك الجيل بها. ومتى اتصلت الأيام وتعاقبت تلك الصناعات حذق أولئك الصناع في صناعتهم ومهروا في معرفتها. والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرر أمثالها تزيدها استحكاماً ورسوخاً. وأكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستبحار العمران وكثرة الرفه في أهلها. وذلك كله إنما يجيء من قبل الدولة لأن الدولة تجمع أموال الرعية وتنفقها في بطانتها ورجالها. وتتسع أحوالهم بالجاه أكثر من اتساعها بالمال فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا وخرجها في أهل الدولة ثم فيمن تعلق بهم من أهل المصر وهم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم وتتزيد عوائد الترف ومذاهبه وتستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه وهذه هي الحضارة. ولهذا نجد الأمصار التي في القاصية ولوكانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسطة في الأقطار التي هي مركز الدولة ومقرها. وما ذاك إلا لمجاورة السلطان لهم وفيض أمواله فيهم كالماء يخضر ما قرب منه مما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد. وقد قدمنا أن السلطان والدولة سوق للعالم. فالبضائع كلها موجودة في السوق وما قرب منه وإذا بعدت عن السوق افتقدت البضائع جملة. ثم إنه إذا اتصلت تلك الدولة وتعاقب ملوكها في ذلك المصر واحدا بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم وزادت واعتبر ذلك في اليهود لما طال ملكهم بالشام نحواً من ألف وأربعمائة سنة رسخت حضارتهم وحذقوا في أحوال المعاش وعوائده والتفنن في صناعاته من المطاعم والملابس وسائر أحوال المنزل. حتى إنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. ورسخت الحضارة أيضاً وعوائدها في الشام منهم ومن دولة الروم بعدهم ستمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة. وكذلك أيضاً القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السنين فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان والروم ثم ملك الإسلام الناسخ للكل. فلم تزل عوائد الحضارة بها متصلة. وكذلك أيضاً رسخت عوائد الحضارة باليمن لاتصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة والتبابعة آلافاً من السنين. وأعقبهم ملك مضر. وكذلك الحضارة بالعراق لاتصال دولة النبط والفرس بها من لدن الكلدانيين والكينية والكسروية والعرب بعدهم آلافاً من السنين فلم يكن على وجه الأرض لهذا العهد أحضر من أهل الشام والعراق ومصر. وكذا أيضاً رسخت عوائد الحضارة واستحكمت بالأندلس لاتصال الدولة العظيمة فيها للقوط ثم ما أعقبها من ملك بني أمية - آلافاً من السنين. وكلتا الدولتين عظيمة. فاتصلت فيها عوائد الحضارة واستحكمت. وأما إفريقية والمغرب فلم يكن بها قبل الإسلام ملك ضخم. إنما قطع الروم والإفرنجة إلى إفريقية البحر وملكوا الساحل وكانت طاعة البربر أهل الضاحية لهم طاعة غير مستحكمة. فكانوا على قلعة أو فاز. وأهل المغرب لم تجاورهم دولة وإنما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراء البحر. ولما جاء الله بالإسلام وملك العرب إفريقية والمغرب ولم يلبث فيهم ملك العرب إلا قليلاً أول الإسلام وكانوا لذلك العهد في طور البداوة ومن استقر منهم بإفريقية والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلد فيه من سلفه إذ كانوا برابر منغمسين في البداوة. ثم انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود على يد ميسرة المظفري أيام هشام بن عبد الملك ولم يراجعوا أمر العرب بعد واستقلوا بأمر أنفسهم وإن بايعوا لإدريس فلا تعد دولته فيهم عربية لأن البرابر هم الذين تولوها ولم يكن من العرب فيها كثير عدد. وبقيت إفريقية للأغالبة ومن إليهم من العرب فكان لهم من الحضارة بعض الشيء بما حصل لهم من ترف الملك ونعيمه وكثرة عمران القيروان. وورث ذلك عنهم كتامة ثم صنهاجة من بعدهم. وذلك كله قليل لم يبلغ أربعمائة سنة. وانصرمت دولتهم واستحالت صبغة الحضارة بما كانت غير مستحكمة. وتغلب بدو العرب الهلالين عليها وخربوها وبقي أثر خفي من حضارة العمران فيها. وإلى هذا العهد يؤنس فيمن سلف له بالقلعة أو القيروان أو المهدية سلف فتجد له من أحوال الحضارة في شؤون منزله وعوائد أحواله آثاراً ملتبسة بغيرها يميزها الحضري البصير بها وكذا في أكثر أمصار إفريقية. وليس ذلك في المغرب وأمصاره لرسوخ الدولة بإفريقية أكثر أمداً منذ عهد الأغالبة والشيعة وصنهاجة. وأما المغرب فانتقل إليه منذ دولة الموحدين من الأندلس حظ كبير من الحضارة. واستحكمت به عوائدها بما كان لدولتهم من الاستيلاء على بلاد الأندلس. وانتقل الكثير من أهلها إليهم طوعاً وكرهاً. وكانت من اتساع النطاق ما علمت فكان فيها حظ صالح من الحضارة واستحكامها ومعظمها من أهل الأندلس. ثم انتقل أهل شرق الأندلس عند جالية النصارى إلى إفريقية فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثاراً معظمها بتونس امتزجت بحضارة مصر وما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغرب وإفريقية حظ صالح من الحضارة عفى عليه الخفا ورجع على أعقابه. وعاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة والخشونة. وعلى كل حال فآثار الحضارة بإفريقية أكثر منها بالمغرب وأمصاره لما تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المترددين بينهم. فتفطن لهذا السر فإنه خفي عن الناس. واعلم أنها أمور متناسبة وهي حال الدولة في القوة والضعف وكثرة الأمة أو الجيل وعظم المدينة أو المصر وكثرة النعمة واليسار. وذلك أن الدولة والملك صورة الخليقة والعمران وكلها مادة لها من الرعايا والأمصار وسائر الأحوال. وأحوال الجباية عائدة عليه ويسارهم في الغالب من أسواقهم ومتاجرهم. وإذا أفاض السلطان عطاءه وأمواله في أهلها انبثت فيهم ورجعت إليه ثم إليهم منه. فهي ذاهبة عنهم في الجباية والخراج عائدة عليهم في العطاء. فعلى نسبة حال الدولة يكون يسار الرعايا وعلى نسبة يسار الرعايا أيضاً وكثرتهم يكون مال الدولة. وأصله كله العمران وكثرته. فاعتبره وتأمله في الدول تجده. والله سبحانه وتعالى يحكم لا معقب لحكمه.
|